قاسم س. قاسم
الثلاثاء 7 تشرين اول 2025
وضعت إسرائيل عقيدتها الأمنية في السنوات الأولى لإنشائها (أ ف ب)
توسّعت الحرب الإسرائيلية على غزة، لتطاول لبنان وإيران، اللذين كانا - حتى وقت قريب - محرّميْن على العدو، بفعل توازن الردع الذي كان قائماً، وانتهت بسلسلة ضربات استباقية فاجأت خصوم إسرائيل. ووفقاً للعميد (احتياط)، مئير فنكل، في مقال نُشر في معهد «دادو» التابع للجيش الإسرائيلي (آب الماضي)، فإن محور المقاومة كان يعتقد بأن إسرائيل مردوعة، وبأنها تبنّت أسلوبه في «المعركة بين الحروب» القائمة على الردع المتبادل، وبالتالي عدم بلوغ عتبة الحرب الشاملة.
لكنّ سلسلة الضربات الإسرائيلية، في صيف 2024 وربيع 2025، أظهرت عودة المؤسسة الأمنية إلى العقيدة الهجومية، ما تسبّب، بحسب فنكل، بـ«حالة من الصدمة لدى قادة إيران وحزب الله». ولعلّ أبرز مثال على التحوّل الذي أصاب العقل الإسرائيلي، تجرؤ تل أبيب على استهداف قطر بشكل مباشر، وتبنّي الفعل بصورة علنية.
ويستوجب فهم هذا التحوّل، العودة إلى أصول العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي وضعها أول رئيس حكومة للكيان الناشئ، دافيد بن غوريون، في خمسينيات القرن الماضي، واستعراض بعض الأمثلة التاريخية على الحروب الوقائية والضربات الاستباقية التي شنّتها إسرائيل، ثم تحليل أسباب تغيّر العقيدة، وعودة الثوابت القديمة، في مواجهة المقاومة.
وضعت إسرائيل عقيدتها الأمنية في السنوات الأولى بعد «الاستقلال» (نكبة عام 1948)، حينما حتّمت ظروف تأسيس الكيان وغياب العمق الاستراتيجي وفارق القوّة السكاني والعسكري، على قادة الدولة الوليدة، وفي مقدّمهم بن غوريون، الاعتماد على المؤسسة العسكرية أكثر منها على المعاهدات والتحالفات. هذه العقلية، بلورت سياسة أمنية دفاعية هدفها منع إلحاق الضرر بالداخل الإسرائيلي، وضرورة نقل المعركة إلى أرض العدو، أي اعتماد عقيدة عسكرية هجومية، وتنفيذ هجمات استباقية. ودفعت هذه الرؤية، أصحابها إلى بناء جيش صغير يعتمد على قوات احتياط كبيرة ونوعية لتعويض الفارق العددي مع العرب، وارتكزت على مثلّث أمني: الردع، الإنذار المبكر والنصر الحاسم.
أوضح بن غوريون، في وثيقة «الجيش والدولة» ذات النقاط الثماني عشرة، التي أقرّتها الحكومة عام 1953، أن الدفاع عن السكان يتطلّب وقف الهجمات المعادية بسرعة، ونقل المعركة إلى أراضي العدو عبر تعبئة الاحتياط وتنفيذ هجمات مضادة، لأن الدولة تفتقر إلى الإنذار المبكر كما إلى العمق الاستراتيجي.
وإذ شدّد على تطوير الاقتصاد والاكتفاء الذاتي وتوزيع السكان على الحدود لتعزيز الدفاع عن قلب الكيان، حيث الثقل الصناعي والاقتصادي، فهو رأى أن على الجيش، في أيّ حرب، البدء بالدفاع ثمّ التحوّل إلى الهجوم، معتمداً على الاحتياط. تكرّر في الوثائق العسكرية لتلك الحقبة، النقاش حول أنواع الحروب المتوقّعة: هجوم مفاجئ أو غير مفاجئ على إسرائيل، وردود وقائية أو استباقية؛ علماً أن أساس العقيدة العسكرية، في خمسينيات القرن الماضي، كان «الدفاع»، لذلك، حمل الجيش اسم «جيش الدفاع الإسرائيلي»، ثم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، طوّر مفهومَي الردع والإنذار. ولعلّ العبرة الأهمّ هي أن الاستراتيجية المُشار إليها في تلك الحقبة، عَدّت الهجوم الوقائي جزءاً طبيعيّاً من الدفاع عن الدولة.
تاريخيّاً، شنّت إسرائيل حروباً وقائية عدّة ضدّ أعدائها، أُولاها كانت «حملة سيناء» ضدّ مصر عام 1956، والمعروفة أيضاً باسم «العدوان الثلاثي»، والتي تعاونت فيها مع كل من فرنسا وبريطانيا، فسيطرت على سيناء، وضربت البنية العسكرية المصرية. حينذاك، اعتبرت إسرائيل أن بناء الجيش المصري يشكّل تهديداً وجوديّاً بالنسبة إليها. ورأى الإسرائيليون أن الحرب التي شنّوها كانت وقائية، وهدفت إلى منع تغيّر ميزان القوّة قبل اكتمال بناء قوة الجيش المصري. وعلى الرغم من أن بعض أهداف العملية تجاوزت مجرّد الوقاية، إلّا أنها رسّخت في العقيدة الإسرائيلية مشروعية الضربة الوقائية عندما يلوح في الأفق تهديد استراتيجي قد يغيّر ميزان القوى.
عملية «موكيد»
أدّى حشد الجيوش العربية في أيار 1967، وإغلاق مضائق تيران مرة أخرى، إلى اعتقاد إسرائيل بأن الحرب وشيكة. فقرّرت حكومة العدو، في 5 حزيران، تنفيذ ضربة جوية مفاجئة دمّرت معظم سلاح الجو المصري وهو في مرابضه، وسمّتها عملية «موكيد». يصف مركز «بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية» (21-4-2024)، هذه العملية بأنها «هجوم استباقي هدف إلى إحباط التحضيرات الهجومية للعدو قبل اكتمالها». وشكّلت الضربات، تفوّقاً جويّاً أتاح للقوات البرية احتلال سيناء والضفة الغربية والقدس والجولان.
وفقاً لورقة «معهد الشرق الأوسط للعلاقات الدولية» (أيلول 2001)، شكَّلت هذه الحرب مثالاً على ضرورة الهجوم الاستباقي عندما تكون إسرائيل في وضع من دون عمق يسمح بالاستمرار في حالة الدفاع. وهنا، يجب التذكير بأن قوات «الهاغاناه» اعتمدت سابقاً هذه السياسة، أثناء النكبة الفلسطينية. فبحسب الأرشيف الإسرائيلي، أمر بن غوريون، «الهاغاناه» و«البلماخ» بالدفاع عن «اليشوفات» عبر الهجوم وتدمير القرى الفلسطينية وتهجير أهلها، في ما عُرف لاحقاً بالخطة داليت (د).
شنّت إسرائيل حروباً وقائية عدّة ضدّ أعدائها، أُولاها كانت «حملة سيناء» ضدّ مصر عام 1956
بعد حرب أكتوبر 1973، واتّساع حدود إسرائيل، بدأت تل أبيب الاعتماد بشكل أكبر على الردع والإنذار المبكر، كما ساهمت اتفاقات السلام مع العرب، وخروج مصر من الصراع العربي - الإسرائيلي، والتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، في غياب المخاطر الوجودية على الكيان. لكنّ صعود أنظمة ومنظمات، من مثل إيران و«حماس» و«حزب الله»، حتّم على إسرائيل، منذ مطلع الألفية، تبنّي استراتيجية «المعركة بين الحروب»، القائمة على تنفيذ عمليات صغيرة ومتكرّرة لتدمير قدرات محدّدة للعدو، مع البقاء تحت عتبة الحرب.
يوضح تقرير «بيغن-السادات»، أن هذه المقاربة ظهرت كبديل للحرب الوقائية ضدّ «حزب الله» بعد عام 2006، لكنّ سقفها المنخفض لم يمنع العدو (فصائل المقاومة) من مواصلة بناء قدراته. في غزة، طُبّق نموذج مشابه عُرف باسم «جزّ العشب»، أي إن إسرائيل التي ترى نفسها كـ«فيلّا» في غابة، تحتاج كل فترة إلى منع أغصان هذه الغابة من الوصول إلى الفيلا وتخريبها. وقبل السابع من أكتوبر، عاب بعض المحلّلين الإسرائيليين على هذه النظرية، لأنهم اعتبروا أنه في فترة حكم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، انشغل سكان الفيلا بمشاكلهم الداخلية ونسوا جزّ العشب، ما أوصل الغابة إلى حدود الفيلا.
أسباب تراجع الضربات الوقائية
يُرجع تقرير «بيغن-السادات»، تلاشي مفهوم الحرب الوقائية، في السنوات الماضية، من الخطاب الأمني الإسرائيلي، إلى عوامل عدة: أولها، ثقة بعض القيادات بأن التهديدات التقليدية تراجعت ويمكن احتواؤها بعمليات محدودة، والمقصود بالقيادات هنا تحديداً بنيامين نتنياهو الذي يحكم إسرائيل منذ عام 2009؛ وثانيها، صعوبة الحصول على شرعية دولية لهجوم تشنّه دولة قوية ضدّ جهات غير حكومية، مثل «حماس» و«حزب الله»؛ وثالثها، معاناة المجتمع الإسرائيلي من خسائر بشرية خلال العمليات البرية، ما جعل صناع القرار يفضّلون خيارات أقلّ كلفة.
وهذه العوامل، دفعت الجيش إلى التركيز على الدفاعات الصاروخية، من مثل «القبة الحديدية»، وإلى شنّ عمليات من دون بصمة ضدّ تهديدات بعيدة، مثل البرنامج النووي الإيراني، بدلاً من الاعتماد على هجمات واسعة.
في المقابل، اعتمدت إيران و«حزب الله»، في العقدَين الأخيرَين، مفهوم «المقاومة» الذي يَعدّ الصراع مع إسرائيل نزاعاً طويل الأمد يقوم على الاستنزاف المُتدرّج، حيث سعى المحور إلى خلق معادلات لردعها عن التصعيد، عبر إقناعها بتجنّب المواجهة الشاملة لِما ستحمله من تكلفة مرتفعة. تضمَّن هذا المفهوم، بناء ترسانة ضخمة من الصواريخ الدقيقة، وتعزيز قوّة «الرضوان» على الحدود اللبنانية، وفرض «قواعد لعبة» تمنع إسرائيل من تجاوز الحدود. مثل هذه القواعد، تجلّت في السنوات التي سبقت حرب 2023، حين امتنعت إسرائيل عن مهاجمة البنى التحتية لـ«حزب الله» داخل لبنان، وفضّلت ضرب أهداف في سوريا أو تنفيذ عمليات سرّية.
وبحسب ما كتبه الرئيس السابق لشعبة العمليات، مئير فنكل، في مركز «دادو»، فإن «قادة إيران وحزب الله اعتقدوا بأن إسرائيل اعترفت بتفوّق الردع لدى المحور، وبأنها مُجبرة على تبنّي «المعركة بين الحروب» والامتناع عن الحسم، على اعتبار أن تطوير ترسانة الصواريخ و«طوق النار» حولها، دفعاها إلى التركيز على الدفاع. ورأوا أن المجتمع الإسرائيلي منقسم وغير راغب في خوض حروب برية طويلة». كل ذلك، بحسب فنكل، «خلق جموداً إدراكيّاً لدى المحور، جعله يتجاهل مؤشرات التغيير في السياسة الإسرائيلية خلال حرب «السيوف الحديدية»، مثل عمليات اغتيال قادة حزب الله».
في الـ23 من أيلول، بدأت إسرائيل حربها على لبنان بشنّ سلسلة ضربات مفاجئة ضدّ مواقع صاروخية لـ«حزب الله»، علماً أن المستوى السياسي أعلن، في الـ17 منه، إدخال بند «إعادة سكان مستوطنات الشمال» ضمن أهداف الحرب؛ فانتقلت من الدفاع أثناء عام الإسناد إلى الهجوم في العام التالي. وفي حزيران 2025، نفّذت إسرائيل «ضربة استباقية» واسعة ضدّ إيران، فدمّرت أجزاء من برنامجها النووي وقواعد إطلاق الصواريخ الباليستية، إلى جانب اغتيال قيادات.
بعد هاتَين المعركتَين، واستهداف العاصمة القطرية الدوحة بقصف فريق «حماس» التفاوضي، أعلنت إسرائيل بشكل واضح عودتها إلى العقيدة الهجومية التي بنت نفسها عليها. ففي السنتَين الماضيتَين، لم تَعُد إسرائيل تعتمد على الردع الذي فسّره خصومها كضعف، بل انتقلت إلى المبادرة، وعادت إلى سياسة «الأحزمة الأمنية» بهدف توسيع حدودها لحماية عمقها الاستراتيجي.
لذلك، تصرّ إسرائيل على عدم الانسحاب من النقاط الخمس في جنوب لبنان، أو من جبل الشيخ في سوريا، أو من الشريط داخل قطاع غزة.
أعاد السابع من أكتوبر، إسرائيل إلى ماضيها العدائي، خاصة أنها لامست شعور التهديد الوجودي من أصغر فصائل المقاومة. لذلك، فإن ما تفعله اليوم ليس مُستغرباً، فهذه هي حقيقتها.